السلام عليكم
سورة النَّاس مكية، وهي ثاني المعوذتين، وفيها الاستجارة والاحتماء برب الأرباب من شر أعدى الأعداء، إِبليس وأعوانه من شياطين الإِنس والجن، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة والإِغواء.
* وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدأ بالفاتحة، ليجمع بين حسن البدء، وحسن الختم، وذلك غاية الحسن والجمال، لأن العبد يستعين بالله ويلتجئ إِليه، من بداية الأمر إِلى نهايته.
الاستعاذة من شر الشياطين
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6) }
{قُلْ أَعُوذُ} أي قل يا محمد أعتصم وألتجئ وأستجير {بِرَبِّ النَّاسِ} أي بخالق الناس ومربيهم ومدبر شئونهم، الذي أحياهم وأوجدهم من العدم، وأنعم عليهم بأنواع النعم قال المفسرون: إِنما خصَّ الناس بالذكر - وإِن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق - تشريفاً وتكريماً لهم، من حيث إِنه تعالى سخَّر لهم ما في الكون، وأمدهم بالعقل والعلم، وأسجد لهم ملائكة قدسه، فهم أفضل المخلوقات على الإِطلاق {مَلِكِ النَّاسِ} أي مالك جميع الخلق حاكمين ومحكومين، ملكاً تاماً شاملاً كاملاً، يحكمهم، ويضبط أعمالهم، ويدبّر شؤونهم، فيعز ويذل، ويغني ويُفقر {إِلَهِ النَّاسِ} أي معبودهم الذي لا ربَّ لهم سواه. قال القرطبي: وإِنما قال {مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ} لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره فذكر إنه إِلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب إن يستعاذ به ويُلجأ إِليه، دون الملوك والعظماء، وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإِبداع، وذلك لأن الإِنسان أولاً يعرف أن له رباً، لما يشاهده من أنواع التربية {رَبِّ النَّاسِ} ثم إِذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرفٌ في خلقه، غني عن خلقه فهو الملك لهم {مَلِكِ النَّاسِ} ثم إِذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يُعبد، لأنه لا عبادة إِلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إِليه كل ما عداه {إِلَهِ النَّاسِ} وإِنما كرر لفظ الناس ثلاثاً ولم يكتف بالضمير، لإِظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قول الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء نغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا
قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل "الربوبية" و "الملك" و "الإِلهية" فهو ربُّ كل شيء ومليكه وإِلهه، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأُمر المستعيذَ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} أي من شر الشيطان الذي يلقي حديث السوء في النفس، ويوسوس للإِنسان ليغريه بالعصيان { الْخَنَّاسِ} الذي يخنس أي يختفي ويتأخر إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن الله عاد فوسوس له وفي الحديث "إِن الشيطان واضع خطمه - أنفه - على قلب ابن آدم، فإِذا ذكر الله خنس، وإِذا نسي الله التقم قلبه فوسوس" {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي الذي يلقي لشدّة خبثه في قلوب البشر صنوف الوساوس والأوهام. قال القرطبي: ووسوستُه هو الدعاء لطاعته بكلام خفي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} {مِنْ} بيانية أي هذا الذي يوسوس في صدور الناس، هو من شياطين الجِن والإِنس كقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فالآية استعاذة من شر الإِنس والجن جميعاً، ولا شك أن شياطين الإِنس، أشدُّ فتكاً وخطراً من شياطين الجن، فإِن شيطان الجن يخنس بالاستعاذة، وشيطان الإِنس يُزين له الفواحش ويغريه بالمنكرات، ولا يثنيه عن عزمه شيء، والمعصوم من عصمه الله.