خطبة جمعة للشيخ فؤاد بوعلاقة الجزائري
إن الحمد لله ... إخوة الإيمان
روى الإمام النسائي في سننه، و البيهقي باسنادصحيح من حد يث شداد بن الهاد رضي الله عنه: «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي (صلى الله عليه و سلم) فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك.فأوصى به النبي (صلى الله عليه و سلم ) بعض أصحابه فلما كانت غزاة [فلما كانت غزوة خيبر ] غنم النبي (صلى الله عليه و سلم )[ فيها] شيئا فقسم. وقسم له ، فأعطى أصحابه ما قسم لهقسم له وكان يرعى ظهرهم ¸فلما جاء دفعوا إليه ، فقال ما هذا؟ قالوا ، قسم قسمه لك النبي (صلى الله عليه و سلم ) فأخذه فجاء به النبي (صلى الله عليه و سلم )فقال : ماهذا ؟ قال قسمته لك قال :ما على هذا اتبعتك ،ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا – و أشار إلى حلقه – بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال:إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتي به إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يحمل قد أصابه سهم حيث أشار .فقال النبي (صلى الله عليه و سلم ) أهو هو ؟ قالوا : نعم .قال صدق الله فصدقه ثم كفنه النبي (صلى الله عليه و سلم ) في جبته التي عليه[في جبة النبي (صلى الله عليه و سلم ) ] ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته :اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك » صحيح الترغيب والترهيب (2 l 117/118رقم 1336)
الله أكبر ما أعظم الصدق ، هؤلاء هم رجال الصدق رجال محمد (صلى الله عليه و سلم ) رجال صدق وا ما عاهدوا الله عليه، خرجوا من مدرسة النبوة، صدق في الحديث وصدق في المواقف وصدق عند اللقاء قال الله تعالى :
« هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم» المائدة (119)
أيها الناس :
إن لهذا الخلق شأنا عظيما، إنه القيمة التي تعطي لهذه الحياة معنى ورفعة، إنه القيمة التي يتعامل بها الناس فيما بينهم ويُكَونون بها علاقاتهم واتصالاتهم واجتماعاتهم، فلكم أن تتصوروا حياة بلا صدق ! لكم أن تتخيلوا مجتمعا كل أفراده لا يلتزمون بالصدق ولا يقيمون له أي وزن ! كيف تكون حياة هذا المجتمع ؟ إنها بلا شك حياة تعاسة و شقاء ،حياة بلا قيمة ولا مضمون ،حياة بلا استقرار ولا كرامة .
لأجل ذ لك كان الصدق من الأخلاق الأساسية في الإسلام لما يترتب عليه من المصالح الضرورية التي يحتاج إليها العباد في معاشهم ومعادهم والد نيا لا تستقيم الأمور فيها إلا مع الاستقامة على الأخلاق من العدل الذي قوامه الصدق في الأقوال و الأعمال .
لقد أولى القرآن الكريم هذا الخلق اهتماما كبيرا بأن أمر بالتزامه في عدة آيات كريمة منها قوله «ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» ففي هذه الآية الأمر من الله تعالى بالتزام الصدق ،وأن يكون المؤمنون مع أهل الصدق دائما حتى يحققوا تقوى الله ويستحقوا ثوابه ومن جانب آخر نجد في الأمر بمصاحبة الصادقين إرشادا إلى اتخاذ الصحبة الصالحة الصادقة لأنها تساعد على الاستقامة وتحقيق تقوى الله.
وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام والصدقه والصبر بأنهم أهل الصدق فقال
«ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر و الملآئكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى و المساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام لصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدق وا و أولئك هم المتقون » [البقرة :177]
وهذا صريح في أن الصدق يكون بالأعمال الظاهرة و الباطنة ،وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان .
وقسم سبحانه الناس إلى صادق و منافق فقال:
«ليجزي الصادقين بصدق هم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما » [ الأحزاب (24)]
فالإيمان أساسه الصدق ،والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذ ب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر.
وأخبر أنه يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدق ه فقال:
«قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم» [المائدة : 119]
وقال تعالى:« والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون » [الزمر:33]
فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله و حاله ،فالصدق في القول هو استواء اللسان على الأقوال ،و الصدق في العمل هو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ،و الصدق في الحال هو استواء أعمال القلب و الجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذ ين جاءوا بالصدق ،وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقيته التي هي كمال الانقياد للرسول (صلى الله عليه و سلم )مع كمال الإخلاص لله تعالى .
ومما يبين شرف الصدق ومنزلته أن الله تعالى قد خص الأنبياء بذكر صفة الصدق فيهم تأكيدا على أصالة هذا الخلق الكريم فيهم وتمكنه في نفوسهم فقال: «واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا » [مريم ك40]
وقال:«واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا »
و قال :«واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديق ا نبيا ورفعناه مكانا عليا »
أيها المسلمون أيتها المسلمات :
إن عناية القرآن الكريم بخلق الصدق في الأمر به في الآيات السابقة تساندها أقوال المصطفى (صلى الله عليه و سلم ) لتؤكد تلك المنزلة الرفيعة لهذا الخلق فعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و سلم ) :
«عليكم بالصدق فان الصدق يهد ي إلى البر ،وإن البر يهدي إلى الجنة ،ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ،وإياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور ،وان الفجور يهدي إلى النار ،ومايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» صحيح مسلم
فقد أمر النبي (صلى الله عليه و سلم ) بالصدق وبين أنه يوصل إلى البر (والبر اسم جامع للخير كله ) و البر يوصل إلى الجنة ،ونهى عن الكذب وحذر منه وبين خطورته بأنه يوصل إلى الفجور (والفجور هو الميل على الاستقامة والانبعاث في المعاصي) والفجور يوصل إلى النار والعياذ بالله.
فقد جعل الرسول (صلى الله عليه و سلم ) الصدق أصل كل الخيرات و الأعمال الصالحة والطريق إلى جنات النعيم كما جعل الكذب أصل الانحراف عن جادة الحق والطريق إلى العذاب الأليم .
وعن عبادة الله بن الصامت (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه و سلم ) قال:
«اضمنوا لي ستا من أنفسكم اضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم ،وأدوا إذا ائتمنتم ،واحفظوا فروجكم ،وغضوا أبصاركم ،وكفوا أيديكم» صحيح لغيره
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)أن رسول الله(صلى الله عليه و سلم ) قال:
«أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة في طعمه»
عباد الله
إن الإيمان بالله تعالى هو الأساس القوي في خلق الصدق في أشمل وأوسع معانيه, ذ لك أن الإيمان يقين راسخ وتصديق مطلق لكلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه و سلم )،والإيمان بهذا المفهوم لاشك أنه باعث على صدق التوجه في الحياة وعلى صدق التنظيم والانضباط والاستقامة .
ولقد ارتبط الصدق بالإيمان ارتباطا وثيقا بحيث لا ينفك عنه بحال من الأحوال ، فالصدق مع الإيمان وجودا وعدما،زيادة ونقصانا ،فإنك لا ترى علامة من علامات الإيمان إلا و تجد أن الصدق متصل بها اتصالا مباشرا وثيقا لذلك قال الله تعالى :
«و الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم»
هذه الآية الكريمة نص صريح في أن المؤمنين هم الصديقون ،هم أهل الصدق و التصديق هم أهل المنازل العالية في الجنة فعن أبي سعيد الخذ ري (رضي الله عنه) أن رسول الله(صلى الله عليه و سلم ) قال :
«إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم .قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذ ي نفسي بيده ،رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين» مسلم
ولكن ما هو السبيل إلى سلوك طريق الصدق ؟ و هذا السؤال عظيم ينبغي لكل مسلم أن يقف عند ه و يعرف جوابه ، والجواب أن نقول إن من العوامل الضرورية في سلوك طريق الصدق والتدرج في مدارجه هو الصحبة الصالحة ،فالصادق لن يستقيم على صدقه في أوساط الكذابين ، بل إنه لن يستريح معهم فصدقه يقوده إلى البحث عن جماعة الصادقين و يستقيم معهم بصبر و مصابرة وجهاد واستقامة ،وكذا معايشة سير الأنبياء (عليهم الصلاة و السلام ) و قصص الصديقين من سلفنا الصالح ،فهذه كلها عوامل لازمة لتحقيق خلق الصدق العظيم و في الجملة فمنزلة الصدق من أعظم منازل القوم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين وهو الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران و هو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أزاله وصرعه فهو روح الأعمال ،والحامل على اقتحام الأهوال ،والباب الذ ي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال ، و هو أساس بناء الد ين ، و درجته تالية لد رجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده و رسوله (صلى الله عليه و سلم ) أما بعد :
إخوة الإسلام
إن الصدق دعوى عظيمة في كل شيء يدعى يحتاج إلى حجة و برهان وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة والفوز الأبدي و الفلاح السرمد ي فمن ادعاه وقام بواجباته و لوازمه فهو الصادق المؤمن حقا،و من لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه وليس لدعواه فائدة ، فان الإيمان في القلب لايطلع عليه إلا الله تعالى ،ثم إن الكذب في دعوى العقيد ة و الإيمان جريمة من أكبر الجرائم في جنب الله عز وجل لأجل ذلك كله كان الصدق الخالص المنافي للكذب المانع من النفاق من أعظم شروط لااله إلا الله ،و الصدق هو أن يواطئ أو يوافق القلب اللسان في النطق بكلمة التوحيد لااله إلا الله و ذ لك بأن يقول العبد هذه الكلمة صادقا من قلبه ولهذا قال الله تعالى في ذم المنافقين:
«إذ ا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون »
فوصفهم الله بالكذب لأن ما قالوه بألسنتهم لم يكن موجودا في قلوبهم .
ود ليل هذا الشرط من القرآن الكريم قوله «ومن الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ماهم بمؤمنين »
قال ابن ناصر السعد ي في تفسيرها( تيسير الكريم الرحمان ص(42))
[(ومن الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ماهم بمؤمنين) فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فأكذبهم الله بقوله (وما هم بمؤمنين) لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين ]
أما دليله من السنة النبوية الصحيحة فهو ما ثبت في الصحيحين من ح يث معاذ بن جبل (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه و سلم ) أنه قال :
«ما من أحد يشهد أن لااله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار » البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر في الفتح(1/226):[ قوله (صدقا) فيه احتراز عن شهادة المنافقين ]
فالصدق إذا هو د ليل الإيمان ولباسه ولبه وروحه كما أن الكذب بريد الكفر و لبه وروحه ،والسعادة دائرة مع الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب و التكذيب .
فيا أخي إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ، و يفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ،فان الكذ ب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا ، والخير شرا والشر خيرا فيفسد عليه بذ لك تصوره وعلمه عقوبة له .
ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل ولهذا كان الكذ ب أساس الفجوركما قال النبي (صلى الله عليه و سلم )
«إن الكذ ب يهد ي إلى الفجور وان الفجور يهد ي إلى النار»
وأول مايسري إليه الكذ ب من القلب إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ، فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد و يترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتد اركه الله عز وجل بدواء الصدق فيقلع تلك المادة من أصلها ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق ، وأضدادها من الرياء والعجب و العجز والكبر أصلها الكذ ب .
فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق و كل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب ، والله تعالى يعاقب الكاذب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته ، فما استجلبت مصالح الدنيا و الآخرة بمثل الصدق و لا مفاسدها و مضارها بمثل الكذ ب.
قال بعضهم [من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل : و ما الفرض الدائم ؟ قال : الصدق ] ولهذا
وقال أبو شهاب الزهري [ والله لو نادى مناد من السماء إن الكذ ب حلال ما كذبت]
فيا عباد الله الصدق فضيلة و طمأنينة ،بل صفة من صفات المؤمنين ، فتعلقوا به، و تحروا الصدق وان رأيتم الهلكة فيه ، فان النجاة فيه ، و تجنبوا الكذب و إن رأيتم النجاة فيه فان الهلكة فيه ألا واتقوا الله وكونوا مع الصادقين